من نحن؟ هو سؤال ذاكرة وهوية ملتهب يبحث لنفسه عن إجابة في نفوسنا ويفرض نفسه بقوة لرسم خطوط الطول وخطوط العرض بين الأنا والآخر، بين الخصوصية والشمولية بمعناها الإنساني. لهذا السبب، يتم الرجوع للتاريخ كفيصل لمعرفة المنطلق والأصل، وبالتالي فهم مكونات الحاضر في اتجاه تحسس معالم المستقبل.
التاريخ لغة وفق الأصل اللاتيني المشتق من كلمة historia، يفيد معنى “الاستقصاء” و”البحث” recherche، أي معرفة بأحداث ووقائع عصر من العصور لأمة من الأمم. إذن، اذا كان التاريخ كما هو مجموعة أحداث حدثت بالفعل، فمن يكتب التاريخ؟ وما معيار صدق هذه الرواية أو تلك؟ وكيف يمكن التمييز بين الرواية التاريخية المعقولة وبين الفانتازيا والخرافات ؟
أهمية مشروعية هذه الأسئلة يمكن توضيحها بمقولة شيشرون/Cicéron : “جهل الاحداث الماضية لما قبل ولادتك، يعني أنك ستبقى دائما طفلا”، فدراسة التاريخ ومعرفته ليس ترفا فكريا ولا مضيعة للوقت كما قد يتخيل البعض، لكنها مسألة وجودية تساعد على فهم الذات أولا ثم الانطلاق للمستقبل ثانيا.
التاريخ ليس سردا أدبيا كما يتخيله البعض، لكنه بناء عقلي يتبع خطوات منهجية ونظرية
للقيام بذلك، وجب اتباع منهج عقلي وعلمي للتعاطي مع تلك المعطيات لمعرفة ماذا حدث وفق آليات متأنية ورصينة تغربل المعطى الموضوعي بعيدا عن الزيادات و الأيديولوجيات والذاتية… صحيح أن التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن عصرنا يزخم بتقنيات علمية تحسم النقاش بالحجة والبرهان.
المعرفة التاريخية بناء عقلي، يلزم تأني الحذر ورصد معقولية الرواية عن هذا الحدث أو ذاك. المؤرخ يجمع المعطيات المتوفرة ويحاول إيجاد خيط ناظم بين الأحداث وسياقاتها التاريخية من معالم المجتمع والثقافة وحدود الممكن.
التاريخ ليس سردا أدبيا كما يتخيله البعض، لكنه بناء عقلي يتبع خطوات منهجية ونظرية كما أكد على ذلك المؤرخ الفرنسي هنري إيريني مارو (1).
نفس الرؤية المتمثلة في فحص ونقد المعطيات التاريخية بدأت منذ عهد “أبو التاريخ”، المؤرخ اليوناني هيرودوت/Hérodote و عده عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون الذي أكد في كتابة المشهور “المقدمة” على أن المعرفة التاريخية ليست سردا ومجرد نقل بمعناه العامي المتداول، ولكنه فحص للآثار التاريخية بمنهج موضوعي بحكمة وبصيرة.
يقول ابن خلدون في هذا الصدد: “كثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأيمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا وسمينا، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة(..) وتحكيم النظر و البصيرة في الأخبار…”
نفس الشيء فيما يخص القراءة العقلية والمعقولة لمرويات تاريخية أكدها علماء معاصرون كريمون ارون وبول ريكور. هذا الأخير أكد على ضرورة إخضاع الوثيقة التاريخية للفحص العلمي الدقيق الذي جادت به العلوم في الزمن المعاصر.
الآن، بعيدا عن الأيديولوجيا والأحكام المسبقة، وعلى أرضية ما سبق، نحتاج لمواجهة أنفسنا أمام المرآة والتحلي بالشجاعة الأدبية اللازمة للإجابة عن السؤال الكبير بمعناه الهوياتي الواسع: من نحن؟ وما جذور تاريخ المغرب وثقافته ؟
المعرفة التاريخية بناء عقلي، يلزم تأني الحذر ورصد معقولية الرواية عن هذا الحدث أو ذاك. المؤرخ يجمع المعطيات المتوفرة ويحاول إيجاد خيط ناظم بين الأحداث وسياقاتها التاريخية من معالم المجتمع والثقافة وحدود الممكن.
الموقع الأثري “ليكسوس” قرب مدينة العرائش، “طنجيس” قرب مدينة طنجة، موقع “وليلي” المشهور ضواحي مدينة مكناس… كلها مواقع أثرية أغلبنا يجهل أهميتها بل وحتى وجودها أصلا، في حين تحفظ الكثير عن تاريخ طويل وعمق حضاري مغربي/موري أسسه أجدادنا، بالاضافة إلى عدة مواقع أثرية أخرى في صحراء المغرب يصفها المتخصصون “بالمتحف الأركيولوجي المفتوح”.
منذ أن كنا صغارا، تعلمنا أن “وليلي” مدينة بناها الرومان وكفى. لكن لم يحدثنا أحد عن “العصر الموري” الذي سبقها والذي بنى حضارة مكتملة الأركان تحدث عنها المؤرخون وأكدها الأركيولوجيون، تسمى “الحضارة الليبية” Civilisation Libique التي امتدت من المغرب حاليا غربا الى حدود مصر شرقا وكانت لغتها الرئيسية اللغة “الليبية”، وهي لغة مكتوبة مع اختلاف طفيف بين اللغة الليبية الشرقية التي استفادت من التأثير الفينيقي إيجابا، مقارنة بنظيرتها الغربية التي ظلت أكثر انغلاقا بفعل الموقع الجغرافي.
مدينة وليلي بناها المور/Maures وهم السكان الأصليون منذ القرن (300ق.م)، وتجدر الإشارة هنا إلى أن “اسم المغرب له جذور جد قديمة كما اللغة الأمازيغية، فالفينيقيون يقصدون بها تلك الزاوية من إفريقيا تحت اسم “ماحوريم: Mahourim و الذي يعني غروب الشمس (..). السكان كانوا “موريسيين” بالنسبة للإغريق أو موريش أو مور بالنسبة للاتينيين الذين سيطلقون عليه اسم “موريطانيا” التي ستتحول لاحقا إلى اسم المغرب”(3).
مدينة وليلي، ورغم الأثر الروماني في معمارها، إلا أن علم الآثار حدد الجزء الأقدم من سور المدينة مثلا باعتباره سورا “موريا” من خلال العلامة المميزة للمعمار الموري الذي يتضمن إهداء لشخص أو لقبيلة كقبيلة (DAQUATE) الموجود اسمها على الإهداء؛ عكس الجزء الروماني الذي بني لاحقا والمتميز بتضمنه لختم أو إمضاء/Inscription، كما تم العثور على معبد موريتاني بنفس المدينة (انظر المصدر 3) يعكس وجود حضارة مورية مميزة الطقوس والعادات. هذا بالإضافة إلى وجود آثار اركيولوجية لمعامل خاصة بتمليح السمك على طول المدن الساحلية للمغرب.
كل هذه الحقائق العلمية والحفريات الأركيولوجية تستمد قوتها من منهج علمي متخصص يعتمد خمسة مؤشرات أساسية تفصل بين المعطى التاريخي الحق والقصص الشفوية التي لا سند لها وهي ؛
المعمار: من حيث الشكل الهندسي المميز لكل ثقافة.
العملات النقدية: التي تحمل نقش وكتابة صريحة عن قائد مرحلة ما.
الفخار: وخصوصا القطع السيراميكية من حيث حملها لرموز وزركشات محددة.
طريقة الدفن: كمؤشر ثقافي عن طقوس وممارسات خاصة بثقافة وجغرافية ما.
اختبار الكربون 14: أو C14 حيث يتم حسم انتماء قطعة أثرية أو بقايا بشر إلى حقبة تاريخية ما بتحليل مختبري دقيق.
بفضل هذا العلم الذي يمزج بين التقنية والتاريخ، يمكن الآن التفكير والبحث أكثر في تاريخنا لإزالة الشوائب والعمل على استثمار هذه المعطيات في بناء الشخصية المغربية المعتزة بهويتها وتاريخها الضارب في عمق التاريخ، لأخد العبر واستثمارها للتطلع نحو المستقبل.. فاكتشاف “تافوغالت” الأخير يخاطبكم” “نحن مهد البشرية !!” ومن هنا نبدأ…
مراجع
“De la connaissance historique” Henri Irénée Marrou
عبد الرحمن بن خلدون “المقدمة”.
“HISTOIRE DU MAROC à la lumière de l’archéologie” Khadija Hamid, Page 112, édition: Afrique Orient.
“VOLUBILIS une cité du Maroc antique” Jean-Luc Panetier, en collaboration avec Hassan Limane / édition Maisonneuve &Larose.
“Histoire du Maroc” réactualisation et synthèse / Présentation et direction de Mohamed Kably / Publication de l’Institut Royal pour la recherche sur l’histoire du Maroc.