من الابتلاءات الشديدة التي ابتليت بها الأمة الاسلامية منذ ظهور الاسلام الى يومه هي فرقة الخوارج، وعلى خلاف المجتمعات الغربية التي لم تظهر فيها هذه الفئة السامة وسارت نحو التقدم والحضارة، بقيت جينات الخوارج الأوائل تسري بين احفادهم داخل أمتنا وتتحور كالفيروسات والميكروبات فتارة تخرج على شكل لحية وبرقع، وتارة تخرج على شكل شيوعي ثائر أو حقوقي متعصب، وتارة تخرج على شكل وصي على الدولة والحاكم.
ابتدأت أول إرهاصات الخوارج في عهد الرسول على يد ذو الخويصرة التميمي الذي تجرأ على اتهام النبي بالظلم في توزيع الغنائم بعد إحدى الغزوات، لتبدأ شوكتهم في القوة وفكرهم في الانتشار خلال الفتنة الأولى ، حيث كان الخوارج ممن ثاروا على عثمان بن عفان بعد مبايعتهم له، ثم صاروا من شيعة علي بن أبي طالب ليتمردوا عليه لاحقًا عند سعيه إلى الصلح وحقن دماء المسلمين بعد رفضهم قبوله لمحادثات التحكيم تسوية للصراع مع منافسه معاوية في معركة صفين ، وقد استمروا في إثارتهم للفتن بين المسلمين الى ان اغتيل علي بن أبي طالب على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، وسيلقى الحسن بن علي نفس المصير بعد تنازله عن الخلافة سعيا الى الصلح ووحدة الصف بين أبناء الأمة.
سبب تذكري لهذه الصفحات التاريخية المؤسفة هو تيقني أن أحفاد الخوارج الذين دخلوا المغرب الأقصى بعد الفتح، بقيت أهدافهم الخفية مستمرة رغم توالي السنين وتعاقب الدول، وهي كبح أي وحدة أو صلح أو مسالمة بين أبناء الوطن والسعي الدائم الى الخصومة وبث الأحقاد خدمة لأجندات شيطانية لا تهدف سوى الى التفرقة ونشر العداوات والصراعات سواء بين أفراد المجتمع الواحد أو بين الحاكم والمحكومين أو بين الدول سعيا للصراعات والحروب، وهو ما تجسد في العصر الحديث خلال عهد المغفور له الحسن الثاني بمجرد توليه الحكم وسعيه لبناء دولة ديموقراطية حديثة وملكية دستورية وقد تجلى ذلك واضحا في الدساتير الأولى للمملكة، وكم كانت فرحة الصف الديموقراطي الوطني وأبناء الحركة الوطنية قوية بهذا المسار الجديد للأمة المغربية بعد الاستقلال، غير أن الخوارج الجدد كان لهم رأي آخر ليظهروا في صورة اليسار الراديكالي من جهة ومتطرفة الجيش من جهة أخرى، لإثارة الفتن وكبح أي تقدم نحو الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان فكانت المحاولات الانقلابية الفاشلة وما تلاها من أحداث وتمردات فرضت على الملك الراحل وقف مسيرة التقدم وتعطيل الانتقال الديمقراطي، والغريب كيف تحدثنا كتب التاريخ السياسي عن التواطؤات والتعاون السري الذي طبع تلك المرحلة بين فئتين تتظاهر في الظاهر بالعداوة غير أنها متعاونة في كبح جماح التقدم أو أي قرب للعرش من شعبه، حيث تنتعش في الفتن والصراعات، وقد كشف الفقيه البصري في أحد رسائله الشهيرة كيف تعاون قادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مع الجنرال محمد أوفقير في المحاولات الانقلابية التي عرفتها المملكة من أجل تحويل النظام المغربي من نظام ملكي دستوري ديمقراطي إلى نظام عسكري بعثي دموي، والغريب في هذا التعاون السري هو ذاك التوافق الخفي بين المعارضة والتيار القمعي في مربع السلطة، والأغرب من هذا وذاك أن أحفاد الخوارج سيعاودون الظهور بأشكال وأساليب جديد خلال العهد الجديد ذلك أنه بمجرد تربع محمد السادس العرش سيمضي على مجموعة من القرارات الجريئة كان هدفها المصالحة الوطنية والطي النهائي لكافة الصفحات المؤلمة وهو ما اعتبر آنذاك بثورة حقيقية يقودها ملك من أجل الانطلاق نحو مغرب الديمقراطية ودولة الحق والقانون واحترام حقوق الانسان وإطلاق الحريات ودعم حرية الرأي والصحافة، كما تجسدت الارادة الملكية في سعيه الى الاقتراب المباشر من الشعب من خلال أوراش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، غير أنه في الوقت الذي انطلقت فيه سكة الحرية بالمغرب أمام إشادة دولية بالديمقراطية المغربية التي بدأت تتشكل معالمها في وسط مغاربي وعربي وإفريقي لازال يعاني القمع والديكتاتورية، كانت أيادي احفاد الخوارج تشتغل ليل نهار لكبح جماح هذا التقدم وانطلقت بعض الصحافة تحت شعار الجرأة في النيل المباشر والقدحي من عاهل البلاد سعيا لإستثارته لغلق هذا الباب، وبدأ التخطيط لوقف التعددية الحزبية وشفافية الانتخابات بذريعة وقف المد الاسلامي، وانطلقت بعدها مظاهرات 20 فبراير الداعية لإسقاط النظام بوسائل ملتوية لاستثارة الشعب المغربي الذي لم يتفاعل معها إيمانا منه بالدور المحوري للمؤسسة الملكية في استقرار وازدهار الأمة، وقد كانت المفاجأة بتأكيد الملك على الخيار الديمقراطي والحقوقي للمملكة بدستور 2011، وقد كنت فاعلا وشاهدا على هذه الفترة التي خرجنا فيها لمواجهة هذه الحركة المفبركة من الخوارج من خلال الدعوة الى استمرار الملك في مسيرته الاصلاحية وعيا منا بحقيقة المكائد الساعية لكبح الارادة الملكية في بناء المغرب الديمقراطي، وذلك بتأسيس التنسيقية الوطنية للحركات الشبابية التي كانت أول من رفع شعار الاصلاح في ظل الاستقرار قبل ان يسطو عليه عبد الاله بنكيران وحزب العدالة والتنمية غير أننا فوجئنا بإغراق التنسيقية الشبابية بعدد هائل من البلطجية والمجرمين والنصابين سعيا الى تشويه هذا التيار الشبابي الاصلاحي حيث تم اختطافها وتحولت الى صورة مشوهة تسمى الشباب الملكي تخصص رئيسها في سمسرة الملفات القضائية والنصب على المواطنين في أبواب المحاكم، لتنتهي هذه الصفحة بتعيين متطرفة وخوارج شباب فبراير في المسؤوليات وتهميش المعتدلين من رواد الاصلاح الديمقراطي الهادئ، وقد كان ذلك تمهيدا للتراجعات التي عرفها المغرب سواء على مستوى الانتخابات وما عرفته من بروز أصحاب المال الحرام لتزوير الارادة الشعبية او على مستوى استغلال حركات احتجاجية اجتماعية للاندساس وسطهم من طرف متطرفة الخوارج بهدف التهجم على ملك البلاد أو المس بالوحدة الترابية والضغط عليه للتراجع عن مسيرة دستور 2011، وهو ما أسميناه حينها في أحد المرافعات القضائية بمخطط المؤامرة، واستمر الامر كذلك بسقوط العديد من الفعاليات الصحفية أو السياسية في فخ التهجم المباشر على الملك في ظل انعدام وترهل الوسائط المعتدلة من مثقفين وقيادات سياسية وأحزاب وطنية وصحافة واعية والهدف الوحيد هو الوصاية على العرش أو على الدولة من خلال الاستقواء بمنظمات دولية ظاهرها حقوقي وباطنها ابتزازي، وهو ما فتح الباب أمام التيار السلطوي لوقف أي تقدم من مرحلة الانتقال الديمقراطي الى دولة الديمقراطية الحقيقية وكأن التاريخ السياسي يعيد نفسه من عهد الفقيه البصري الى عهد أسامة الخليفي، رغم اختلاف الازمنة والشخوص، وهو ما أسفر عن محاكمات وقضايا وسجون اختلفت الاراء حولها بين من يعتبرها محاكمات سياسية وبين من يؤكد انها قضايا مرتبطة بالحق العام، لكن لا يختلف أحد في أن وجه المغرب قد تغير كثيرا بعد نهاية الصحافة والاعلام وانهيار الاحزاب والنقابات وانكفاء المثقفين، وظهور وجوه جديدة في الساحة العمومية من قبيل روتيني اليومي وتصوير الغائط وانحصار النقاش العمومي في السباب العلني والشجار بين المثليين والمتحولين وبين القوادات وتاجرات الهوى، وظهور أشكال جديدة من الصحفيين والمحامون تخصصوا فيما تحت الحزام من خصوصية، بل تطور الامر لما هو أخطر من هذا وذاك وهو ادعاء فئة من هذه الوجوه المنحلة والمجرمة بأنها إما قريبة من مراكز القرار أوتوظف نفسها بأنها حامية للدولة والملك والمؤسسات، وفي الجهة المقابلة فئة أخرى تمثل المعارضة للنظام والمؤسسات بأسلوب السلاكيط وقلة الحياء والبذاءة، وبين صراع الديكة هذا تم توظيف كل الوسائل القذرة حتى ضاع الوطن وضاعت الثقافة وانهارت القيم ونبل السياسة وتجمد أي انتقال حقوقي أو توسيع لفضاء الحريات المسؤولة، وتحول الفضاء العام إلى شبه بورديل كبير الكل يخرج من جهته أقذر ما عنده وأوسخ ما في جعبته، في تعاون سري خبيث هدفه الخوارجي واحد وهو إسقاط الامة المغربية وانهيار المجتمع المغربي وفرملة أي تقدم نحو الديمقراطية واحترام المؤسسات ودولة الحق والقانون وحقوق الانسان، وهو ما تجلى واضحا عند العفو الملكي على الصحفيين والنشطاء في ذكرى عيد العرش الخامسة والعشرون، ذلك أنه في الوقت الذي كان من المفترض والطبيعي ان تتلقاه الفئة المعارضة بفرح وسرور وتدفع بجلالة الملك نحو مزيد من الانفراج خرج محيط المعتقلين بمقالات السب واللعان وقد وقفت مندهشا ومصدوما من سلسلة مقالات لجريدة الحياة اليومية وبلاغات من نشطاء وجماعات تدعي فيه سراب الانفراج وتسب المربع الملكي والمؤسسات الوطنية في نفس الوقت الذي يغادر فيه الشباب من صحفيين ونشطاء أسوار السجن وهي بذلك قد عرت عن الوجه الحقيقي لمحيط المعتقلين الراغب دائما في استبقاء الوضع الحقوقي والسياسي على ما هو عليه خدمة للتيار السلطوي وحفاظا على امتيازات المتاجرة بهذه القضايا ومآسيها وطنيا ودوليا وقطعا للطريق نحو أية مصالحة او طي للصفحات، والغريب انه نفس الخطاب الذي انتهجته صفحات تدعي الدفاع عن الدولة ومؤسساتها حيث خرجت جميعا بمنطق الوصاية على الملك وقراراته لتضع قيودا وتفسيرات للعفو باستعمال مقزز لعبارات من قبيل “عفو ملكي مبادرة محمودة ولكن….” وكأنها بذلك تسعى لتصوير جلالة الملك بأنه قاصر ولا يعرف مصلحة الدفاع عن الملكية والدولة والمؤسسات، في تجاسر وقلة أدب منقطعة النظير لا مرجعية له إلا في فلسفة الخوارج التي حاولت الوصاية حتى على رسول الله في توزيع غنائم الجهاد والوصاية وتطاولت على ابن عمه علي بن أبي طالب وحفيده الحسن بن علي حتى اغتالتهما تحت شعار الدفاع عن الدين الاسلامي والدولة الاسلامية، والهدف واضح ومكشوف وهو السعي نحو مزيد من الجمود والنفخ في فتيل نار الازمة حتى لا تنطفئ أبدا بل تزداد اشتعالا وتنتقل نيرانها لتحرق الاخضر واليابس خدمة لأجندات استرزاقية همها الوحيد هو عرقلة ازدهار هذه الامة المجيدة وكبح أي تلاحم بين الملك والشعب، وهو الأمر الذي يبدو جليا أن الدولة المغربية قد تفطنت له ولعواقبه على مستقبل استمرارية المغرب والملكية، الأشد خطورة من العطش وندرة المياه وأرجو أن يتفطن له كل المفرج عنهم في مستقبل مواقفهم ومقالاتهم من أجل بناء مستقبل المغرب الذي نريد.