لا يعلم الكثير من المتابعين أنه قبيل حلول الذكرى الخامسة والعشرين لذكرى عيد العرش عاشت مدينة المضيق حيث الاقامة الملكية ليلة ماطرة على غير العادة في مثل هذه الايام الصيفية التي تعرف ارتفاعا في درجات الحرارة، وهي البشائر التي جعلت كثيرا من المغاربة يستبشرون خيرا جما ستصبح عليه أمتنا المغربية، وكأنها إشارات ربانية تفيد بأن أرض المغرب المباركة مرتبطة بسمائه أو أن رحمة السماء المغربية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتراحم بين من يمشي على أرضها الطيبة، وهي شئابيب الرحمة والرأفة التي ترجمها جلالة الملك في عفو شمل كافة الصحفيين والمدونين والنشطاء والحقوقيين بل حتى من كان مرتبطا بقضايا الإرهاب، هي هكذا حكاية هذه الأرض المباركة منذ الأزل حيث يرتبط ما هو روحي بما هو مادي في تزاوج استثنائي مهيب .
ومع زغاريد الأزواج والأمهات وصراخ الأطفال بفرحة اللقاء مع أبائهم المفرج عنهم، جاء الخطاب الملكي ليؤكد على عنصري الماء والتضامن المبدئي مع القضية الفلسطينية كقضيتين أساسيتين تسترعي اهتمام وانخراط الجميع وفق التصور والمنهاج الملكي، ليستفيق المغاربة في اليوم الموالي على انتصار وفرحة تاريخية أخرى بإعلان الديوان الملكي على خبر اعتراف فرنسا الرسمي بسيادة المغرب على صحرائه.
وهنا يجب طررح التساؤل عن الرسائل الخفية في هذا الجمع بين عيد العرش والعفو الملكي ومسألة الماء وفلسطين وقضية الصحراء المغربية.
إنها ببساطة رسائل ملكية بليغة لشعبه الوفي حول إكسير حياة الأمة المغربية في مسارها المستقبلي فإذا كان الماء هو العنصر الحيوي للإنسان والدواب والزرع وكل شيء مصداقا لقوله تعالى “وجعلنا من الماء كل شيء حي”، فإنه لا حياة للمغاربة والأمة المغربية ولا مستقبل لها دون ركائزها الأساسية المتمثلة في المؤسسة الملكية والقضية الفلسطينية وقضية الصحراء المغربية وحرية الصحافة والرأي، فهي عناصر حياة شعب ومجتمع لا تقل أهمية عن الماء والهواء والخبز، ولا أدل على ذلك من روح الحياة التي دبت في المغاربة قاطبة وهم يشاهدون أبناءهم يغادرون أسوار السجن ويعانقون الحرية بعد سنوات عجاف ساد فيها الصمت وجفت الأقلام وهجرت الصحف، وهو ما أعطى زخما تلاحميا ونحن نشاهد ملكا يحقق النصر تلو الآخر في قضية صحرائنا المغربية دون إغفال التضامن المبدئي والدائم مع القضية الفلسطينية العادلة وكأن الرسالة المولوية تقول بأن فرحة الانتصار في قضايانا المصرية لا تكتمل إلا بتلاحم ومصالحة الشعب بكافة مكوناته ومؤسساته.
فأية دروس وأية عبر وأي مستقبل بعد ملحمة الذكرى الخامسة والعشرون للعرش؟
لم يعد يختلف أحد في أن الذكرى الخامسة والعشرون للعرش عملت على تذكير من تغافل أو من أضاع البوصلة أن ركائز الأمة المغربية متمثلة في مؤسسته الملكية التي يتمحور حولها كل عوامل الرخاء والاستمرارية للأمة المغربية، كما ينضاف على ذلك مركزية الايمان بقضاياه المصيرية والوجودية وهي قضية صحرائه المغربية، والقضية الفلسطينية باعتبارها قضية وطنية، والإختيار الديمقراطي والحقوقي باعتبارهما الحامي الأول للتعددية والتنوع والاختلاف داخل الأمة والمجتمع المغربي.
بعد إعلان العفو الملكي عم صمت غريب في العديد من الأوساط بدل تعالي الاصوات للتعبير عن الفرح والامتنان لحلالة الملك والدفع من أجل مزيد من الانفراج، ومن الغريب أن يسود الاتفاق رغم ادعاء اختلافها على عدم التعبير عن الرضى بالقرار الملكي السامي، فهناك من علق أنه غير كاف وهناك من علق بأنه ليس تعبيرا عن مصالحة أو نهاية صفحة، غير أنه من الطبيعي أن تعددت التفسيرات لأن العفو الملكي هو بمثابة إعلان نهاية للعديد من الوجوه والآراء، فهو إعلان نهاية المتاجرة بقضية المعتقلين سواء وطنيا أو دوليا، ونهاية الابتزاز، ونهاية تصريف الأحقاد على الدولة ومؤسساتها، ونهاية استغلال الفراغ المهول الحاصل في الجسم الصحفي وظهور طفيليات جديدة ألفت العيش على مآسي الناس والتشهير بأعراضهم وحياتهم الخاصة، ونهاية نوع مشوه وغريب من الصحفيين والفايسبوكيين والمحامين، ونهاية سعار مناضلي الكارطون في الداخل والخارج الذين يستغلون قضايا الناس لنشر السم والسب والقذف في حق الدولة ومؤسساتها دون أية مساهمة رصينة في حلحلة الملفات والدفع نحو التهدئة، كما أن التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية هو كذلك إعلان نهاية أصوات نشاز كانت تعتزم تحويل المغرب الى بؤرة توتر خدمة لأجندات صهيونية متطرفة ومنهم أصحاب “كلنا إسرائليون”.
لقد علم كل مشكك بعد تجربة المحاكمات القاسية ان المؤسسات الوطنية تتمتع بكامل قوتها واستقلالية قرارتها وهو ما جعل كل مستغل لمحنة المعتقلين سواء من أعداء الخارج أو المتربصين بالسيادة الوطنية يسقطون تباعا أمام قوة وصلابة القرار الوطني وهو ما يفرض على كل مراهن على التنظيمات الدولية التي تغلف ماهو حقوقي بما هو اقتصادي أن يعيد حساباته خصوصا بعد سقوط ورقة التوت عن هذه المؤسسات الابتزازية بعد صمتها وتواطئها على ما يقع في غزة من تقتيل وإبادة جماعية.
وعليه فقد أصبح من الضروري إعادة بناء علاقات جديدة بين كافة الفاعلين ومؤسساتهم الوطنية تقوم على الاحترام المتبادل والنقد البناء والحرية المسؤولة.
أول ما يتبادر إلى الذهن بعد نهاية هذه المحنة، هو هل كان المغرب فعلا في حاجة إليها بعد المصالحة وبعد دستور 2011 ، وهل كانت المؤسسة القضائية ما بعد الاستقلالية في الموعد في أحكامها وقرارتها، كلها أسئلة ملحة تتطلب منا تفكيرا جمعيا هادئا ونقدا ذاتيا رصينا في السلطة القضائية وترسانته التشريعية التي نريد لهذا الوطن، وهل ما تحقق من إصلاحات في مجال القضاء والقانون كاف للقول بوصولنا الى العدل الذي يحمي حقوق وحريات الأفراد ويساهم في تحقيق العدل والأمن والإستقرار والتنمية في ظل سياسة تشريعية تحد من الولوج الى العدالة وتعقد مساطره، وعدالة عرجاء تسعى للمشي دون مؤسسة المحاماة التي تبقى الركيزة الاساسية في الدفاع عن حقوق وحريات الموطنين وأي تحجيم لأدوارها يعود بالسلب على دولة الحق والقانون .
من الملاحظ ان الاحزاب السياسية كانت غائبة عن الاشارات الملكية وهو دليل ضعف المشهد الحزبي المغربي الذي اكتفى بالفرجوية ولم تكن له أية مساهمة فعلية سواء في دعم المؤسسة الملكية خلال الفترات الحرجة بالنصح والمواقف الرصينة والابتعاد عن المنطق السياسوي والانتهازي الضيق، او في الدفاع المعتدل عن القضايا المصيرية للامة سواء منها المرتبطة بالماء ومستقبل الامن الغذائي، او القضايا الحقوقية، او القضايا العادلة كالقضية الفلسطينية، فباستثناء الحزب المغربي الحر الذي كان سباقا في انتقاد السياسة الفلاحية المهدرة للثروة المائية، كما كان ثابتا في الدفاع عن القضية الفلسطينية ، ودافع باستماتة عن حرية الرأي والتعبير ظلت غالبية الاحزاب غائبة عن المساهمة في النقاش العمومي، وهو ما أصبح يتطلب من الاحزاب السياسية مزيدا من العمل والجدية ومراجعة جذرية لطرق النضال والتواصل حتى تكون في مستوى تطلعات الشعب وجلالة الملك، غير أنه في نفس الوقت سيكون من السذاجة الاستمرار في نفس خطاب المعارضة العشوائي وكيل الاتهامات يمنة ويسرة، وفرط الشعبوية تحت شعار : “جيب يا فم وقول” بل أصبح يتطلب نخبا سياسية جديدة وخطابا يمزج بين حرية التعبير والمسؤولية في الخطاب السياسي، إن كانت لديها رغبة في البقاء ومواجهة الموت الذي يتربص بها.
في الختام ان ما يمكن استخلاصه من الذكرى الخامسة والعشرون للعرش هو أن ملك المغرب يتطلع لمستقبل جديد للأمة المغربية بحرية مسؤولة، ومؤسسات قوية ومستقلة لخدمة المواطن والقضايا العادلة وهو ما يدفعنا إلى شكر جلالته ودعوته لمزيد من الاصلاحات والمصالحات الشجاعة.