في حياةِ كلّ واحدٍ مِنَّا أشخاصٌ يَجـدُ فيهم رِقّةً وسَماحةً وبساطة وانْبِـساط، فيُساهمونَ لا مَحالة في مُؤازرتـهِ لتحقيقِ “انجازاتهِ الشخصية”. على أنَّ ما يُسمّى “الإنجازاتُ الشخصية” هو في الحقيقةِ نجاحاتٌ ما كان لها أنْ ترَ النُّـور لولا تضحيات ودعم ومُساندة من جهـاتٍ عدة وأشخاص كُثُر، وحَريٌّ بكل واحدٍ منا أنْ يحتفظَ بِصُورِ أولئك الأشخاص في ذاكرةِ قلبهِ إلى حينِ أُفولِ شمسِ حياتهِ.
كنتُ متّكِئا على جذعِ شجرةٍ أتأمَّلُ أفق الروحِ البعيد قُبَيْلَ المَغيب، وأنا أفكِّرُ في كلّ هذا، فجالَ بخاطري طيفُ أناس “مغمورين” طبَعوا مرحلةً من عُمري تبقى عصيةً على النسيان ولا يُمكنُ أنْ تَسقطَ بالتّقادم..
-السيدةُ عاملةُ النّظافة الأمينةُ الودود، التي كان الحزنُ الجميل يكسو قسمات مُحيّاها، غير أنّ بسمتها الصّامتة تُحلّي مرارةَ أيامها؛ كانت، أحسن اللهُ إليهـا، تُنظفُ مسكني بين الحينِ والآخر؛ فنَمَتْ بيننا علاقة مودةٍ واحترام طوال سنوات الجامعة. غادرتُ تلك المرحلة لكنّ عُمقها الإنساني النّبيل، وتَعاملها اللطيف الممزوج بمسحةٍ من الحياء لا يُغادراني. ولا أنسى أبدا، عندما ٱنَ الأوان وحلَّ الإبَّان وأذِنَ الزمان بالوداع، فباغتتُها بالقولِ مازحا – للتَّخفيف من حدةِ ذلك الموقف – : “إنها النهاية؛ لقد شددتُ رحالي. والرحيلُ المستمر هو قدرُ الإنسان في هذه الحياة، الذي لن ينتهيَ إلا برحيلِ هذا الإنسان!”. كان نسيمُ الحزن العتيق المتدفّق على روحها أقوى من أنْ يُحتمل، فانسابت الدموع من عينيها، على شاكلةِ ما وصفهُ نزار قباني: “زخّاتٍ زخّات”.
مُمتنٌّ لها، فلِحضرتها عليّ فضلٌ كبير!
-الخياطُ الذي كان دكانهُ يقعُ على مقربةٍ من حيثُ كنتُ أقطن؛ تجمَّعَ فيه ما تفرَّق في غيرهِ من مَحاسن: عقلُ مُكافحٍ صامد وقلبُ صوفيٍّ زاهد. كُنتُ أستمتعُ بالحوارِ العميق مع ذلك الرجل البسيط، وكانت أحصنة الكلام تركضُ بنا في كل مضمار إذا ما زُرتهُ في دكانهِ الأثير أو التقينا على قدَرٍ أمام مسجد الحي. كان مُطّلعا على بنيةِ الحُكم وعارفا بمنطق اشتغال الدُّوَل، وعاشقا أبديا لقيمةِ الحرية. كُنتُ أرى فيه نفحةً من الشاعر والحقوقي الكبير “غارسيا لوركا”، ذاك الذي اعتقلهُ الجنرال فرانكو بعد انفراده بالسلطة إبان الانقلاب العسكري الذي شهدتهُ اسبانيا سنة 1936. وكعادةِ كل الأنظمة المستبدة عمِلت قوات فرانكو على تلفيقِ تُهمٍ ثقيلة للشاعر لوركا، جمعَت بين ما هو سياسي وأخلاقي، والتي تم بموجبها إصدارُ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في حقهِ. يُقالُ أنّهُ عندما سِيقَ إلى ساحةِ الإعدام، ابتسمَ في وجهِ جلاّدهِ ونظَر إلى زوجتهِ ورفع يدهُ على شاكلةِ الشّعراءِ الكبار، قائلا كلماتهِ التي ودّعَ بها الحياة فخلّدها التاريخ:
“ما الإنسانُ دونَ حريةٍ يا ماريانا؟!
أخبريني كيفَ أستطيعُ أن أُحِبَّكِ إذا لم أَكُن حُرا؟!
كيفَ أَهَبُكِ قلبي إذا لم يكُن مِلكي؟!”
ماتَ لوركا؛ لكنّ حلمهُ في وطنٍ حُرٍّ يسعُ الجميع لم يَمُت، بل أصبحَ منارةً هادِيّةً للأجيالِ اللاحقة جيلاً بعدَ جيل، تتلَقّفُهُ وتسيرُ على أثرهِ تتلَمّسُ فجرَ حريّتها وانعتاقها!
-حارسُ باب الكلية، الرَّجلُ الكهل؛ الذي كنتُ أحييه بابتسامةٍ كل صباح فينبسطُ وجهه ويردُّ على تحيتي بتحيةٍ عسكرية، وتُلاحقني دعواته العفوية. كان الصباحُ معهُ يبدأ بشكلٍ مختلف؛ شيءٌ من الصدق والدفء والأصالة التي تُوشكُ أن تكون في زمرة الٱفلين. يُذكِّرني دائما بأنّ في زمن “الحياة السائلة” – كما وصفها زيغمونت باومان – ما زال هناك من يحيا بفطرته الأولى مُدركا أنَّ الحياة قصيرة ولا تستحق أن تُعاش بمنطقِ الحسابات الصغيرة. لَم تُفلح تجارب الناس المريرة في حجْبِ هذه الحقيقة عن نفسي، ولا إطفاءِ نورها الذي اشتعل في أعماق روحي كما يشتعلُ الشوق الدفين في قلوبِ العاشقين.
-ابن نواحي تزنيت الذي تناولتُ مأكولاته مرارا.. عبارته التي كان يُلقيها على مسامعي كلما ولجت مطعمه ما زالت ترنُّ في أذني: “سي عبد الصمد كيما العادة؟؟”، ثم نجلس نتقاسمُ المأكل ونتجاذبُ أطراف الحديث؛ كان مُترددا أولَّ الأمر، خائفا يَترقَّب، لكن ما لبث الأنسُ أن عمَّنا فسكنَ إليَّ وسكنتُ إليه، ثم خبرتُ معدنهُ النقي كما هو بلا غطاءٍ ولا ادِّعاء. كانت صفحةُ وجههِ تتهلَّلُ، وبريقُ عينيه يلمعُ كلما تحدثَ عن أسرتهِ الصغيرة التي استوطنَت سفح الجبل في تلك القرية البعيدة، وكأني بهِ يستردُّ جزءً من روحهِ توارى خلف الفيافي لمُعانقةِ ذلك الغائب الحاضر، ذلك البعيد القريب..
بلَّغكَ الله آمالك النبيلة يا أبا معاد!
(…)
هناك أشخاص آخرون جمعتني بهم روابطُ في فضاءاتٍ أخرى و”مواقع كبرى”، غير أني أحببتُ الحديث عن الأخفياء المنسيين، الذين يُصاحبوننا جميعا في تفاصيل أيامنا، فيمنحوننا مِن أعَـزِّ ما يَملكون؛ من صفاءِ سريرتهم، ورِقَّةِ طبعهم، ومَوْفور محبتهم… مِن تلك “الأشياء الحيّة فيهم”، بتعبيرِ إريك فروم.