تغيرت العقيدة الاقتصادية وأصبحت تعتبر العنصر البشري أحد المساهمين في الإنتاج وخلق الثروة وليس اَلة مطيعة للباطرون وكلفة للإنتاج إلى جانب المواد الأولية وغيرها من عوامل الإنتاج الأخرى، إلا أن عقلية الباطرون لم تتغير بعد، فهاجس الربح يطغى على فكره ويجعله عاجزا على فهم أن العنصر البشري المساهم في الإنتاج هو أحد الشركاء في إنتاج الثروة وليس عنصرا مكلفا في عملية الإنتاج.
ومن المعلوم للجميع أن في معظم الدول التي تسمى دول في طريق النمو لم يستطع بعد رواد اقتصادها أن يفهموا أن الأجير هو شريك وليس أداة للإنتاج وليس عبدا مسخرا لتحقيق ثرائهم، بالإضافة إلى أن النصوص القانونية في مجال الشغل لا يمكن اعتبارها إلا حبرا على ورق أمام طغيان الأعراف التي يكرسها أصحاب رؤوس الأموال، فإذا قمنا بمحاولة بسيطة لمقارنة النصوص التشريعية بالأعراف السائدة لا يمكننا إلا أن نخلص الى إستنتاج وحيد هو أن الأجير أداة مسخرة مطيعة في يد المشغل، فالأجر الهزيل وعدم التصريح في مؤسسات الضمان الاجتماعي وإرتفاع ساعات العمل الغير مؤدى عنها … كلها مظاهر تزكي الإستنتاج الأول حيث لا يكسب الأجير إلا ما قد يكفيه للنقل من والى المعمل وأن يكتسب القدرة على الكد والعمل فقط ولا يمكنه أن يحقق الإدخار أبدا، وهذا في أحسن الأحوال والظروف، هذا الذي لا يمكن تسميته إلا سخرة بقالب حديث.
إن واقع الحال يجعلني أستنتج تعريفا وحيدا لعقد الشغل وأن نسميه عقد العبودية والسخرة بحلة حديثة، إنها العبودية التي يختارها الكثير منا معتقدا أنها الملجئ الوحيد من الفقر والهشاشة والبطالة وأنها مصدر لتحقيق العيش الكريم إلا أنها قيود تؤثر على الإنسانية والكرامة والعيش الكريم.
سأجد أن الكثير من القراء متفقون مع وجهة النظر هذه ويطرحون سؤال مهم، ما الخلاص إذا من هذه الوضعية اللاإنسانية؟؟؟
إن التطورات الحاصلة في العقيدة الاقتصادية تفتح الأفق أمام الجميع من أجل المساهمة في البناء الاقتصادي والاندماج في عالم المقاولة وحرية ولوج السوق، لكن إلى أي حد يمكن اعتبار المناخ الاقتصادي الوطني مؤهلا للفكر المقاولاتي ومسهلا سبل ولوج المجتهدين إلى السوق بحرية كاملة؟
والجواب على هذه الإشكالية العميقة يسائلنا عن التشريع في مجال الأعمال وحرية المقاولة والشغل والحماية الاجتماعية للمقاول الصغير والمتوسط والولوج الى التمويلات البنكية والصفقات العمومية والعدالة الضريبية وتدخل الدولة … وغيرها من مدخلات عالم السوق والتجارة والأعمال.
في ظاهر الأمور يمكن أن نستنتج أن المناخ الاقتصادي والقانوني يجعل من المبادرة الحرة والفكر المقاولاتي أهم انشغالات الحكومة والمشرع من خلال إنتاج ترسانة قانونية مهمة في المجال وتعدد البرامج والسياسات، إلا أن باطن الأمور يجعلنا نستنتج أن تحسين ظروف المقاولة والاستثمار غير متكافئ حيث لا يسمح للمقاول الذاتي ولا للحرفي الصغير أن يلج إلى التمويلات البنكية التي تضع حواجز كثيرة بين المقاول الصغير والتسهيلات البنكية وقروض الاستثمار والاستغلال، ولا تمكن الدفاتر الوصفية للصفقات المقاول الذاتي والمقاول الصغير أن يلج هذه الصفقات، وحتى إن ولج الصفقات العمومية تكون طرق الاستلام والأداء عاملا في الإفلاس، أما المعيقات الضريبية فهي معضلة عويصة وغير عادلة تسبب في إعاقة مستدامة لوالج الاستثمار والمقاولة.
يتفق الجميع أن لكل مجتهد نصيب، لكن يبقى الإشكال دوما في نقطة الإنطلاق فلا يمكن اعتبار المقاول الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب أكثر نجاحا من المقاول الذي انطلق من واقع اللا عدالة واللا حرية.
ويبقى السؤال مطروحا، إلى متى سنستمر في عقود العبودية والسخرة التي يطلق عليها عقود العمل؟؟؟
عز العرب بوغالب