إن الخوض في موضوع البوليس النضالي أمر شديد الحساسية ذلك ان بإمكانه تشويه سمعة أي كان لمجرد أنه اعترض على توجه معين أو قال رأيا مخالفا، وتعود أصول هذا التنظيم غير المهيكل إلى 20 فبراير 2011 حيث كان كل من يختار توجها مغايرا ويفضل الاستقرار على الإنسياق وتقليد شعوب باقي الدول العربية التي اختارت الثورات العنيفة، ينعت بابشع النعوت فإما يتهم بالمخبر أو يتهم بالعميل أو المسترزق أو البلطجي مهما كان بريئا منها، وكلها نعوت كان يختارها البوليس النضالي بعناية فائقة لفرض وصايته على كل رأي مخالف بهدف تقزيمه وتشويهه وتحقيره بين المجتمع، وهي نفس الوصاية التي كانت تقوم بها الحركات اليسارية خصوصا منهم المنتمين للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية أيام سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، سواء في الفصيل الطلابي أو الشبيبة الإتحادية حيث يتم تلفيق تهمة مخبر أو عميل بكل من يتعارض مع التوجه العام وقد كان ضحية هذه التهم الجاهزة جهابدة رجال ونساء اليسار الذين انشقوا بعدها وكونوا أحزابا أو تيارات أخرى، أو انزووا إلى معتكفاتهم دون شرف معارضة ولا حلاوة السلطة، وعلى كل مكذب أو مشكك سوى الرجوع إلى المذكرات والوثائق التاريخية التي تثبت أن تهمة العمالة كانت دائما حاضرة في أدبياتهم لإخراس الأصوات المختلفة إن لم أقل المعارضة دخل هذه التنظيمات العنيفة فلم يسلم منها لا اليوسفي ولا اليازغي، كما راح ضحيتها مناضلون وحقوقيون لم يكن ذنبهم سوى اعتراضهم على تواجهات أو مواقف معينة كمحمد الكحص ومحمد الساسي وحسن طارق، حتى تحولت منظومة التخوين إلى آلة مخيفة تأكل أبناءها ببشاعة ودون رحمة.
من هنا تشكلت بنية البوليس النضالي الذي يحاول ان يمنح لنفسه شرعية رفع راية النضال والمعارضة وينزعها عن أي فريق آخر، لكن الذي يغوص في بنية البوليس النضالي يكتشف أن النضال الظاهري يخفي وراءه علاقات متشعبة وعميقة من الارتباطات الدولية والمصالح الإستعمارية التي ما فتئت تستعمل وجوها مغربية للضغط على الدولة ومؤسساتها من أجل مصالح اقتصادية او سياسية محضة لا علاقة لها لا بالنضال ولا بالمواقف ولا بهموم الشعب، ولأجل ذلك تجد البوليس النضالي منغلقا على نفسه ولا يفتح بابه الا لمن تيقنوا انه دخل طريق لا عودة في الخصومة والصراع مع النظام، فالأستاذ محمد زيان كنموذج لضحايا هذه المؤسسة لم يتم قبوله ضمن أروقة البوليس السري رغم أن مواقفه كانت غاية في الراديكالية والفوضوية والتخريب، حتى تعدت في بعضها تطرف مواقف المهدي بنبركة والفقيه البصري، إلا أنه وبالرغم من ذلك ظل منبوذا عن أروقة ودهاليز هذا التنظيم المتشعب فلا بيانات تضامنية معه، ولا دفاع عليه في قضاياه المتراكمة في المحاكم، بل لازالوا إلى اليوم يتحرجون من ذكر إسمه او التنويه بمواقفه، ولازالوا يمتنعون حتى عن استدعائه لتأطير ندوة أو محاضرة، مخافة ان يكتسب الشرعية النضالية، وتوجسا من ان تنكشف حقيقة الإرتباطات الأجنبية، وهو ما لا يقبله مناضلوا اليمين المغربي مهما علا صوتهم وكثر صراخهم وصخبهم، وهنا فقط تنجلي أسباب لفظه من طرف مناضلي الحزب المغربي الحر الذين اختاروا المحافظة على توجهات الحزب اليمينة وعلى مواقفهم الوطنية الراسخة والمتشبثة بحماية المؤسسات والمحافظة عليها، خصوصا بعد تيقن الجميع أن ارتماء أبناء التيارات اليمينية في أحضان بقايا اليسار ومواقفهم العدمية، لا يشفع لهم ولا يمنحهم صكوك الغفران، فيضمحلون يتامى لا هم في موقعهم الطبيعي ولا هم في أحضان وحماية البوليس النضالي.
إن مؤسسة البوليس النضالي المنحدرة من بعض قوى اليسار الميت والمختبئة خلف ستار حقوق الانسان، قد تحولت بفعل الارتباط الخارجي إلى طابور خامس للتفتيش ينزه من انصاع لمواقفها وتشوه من اختلف معها، ويعود سبب انتعاشها الأخير أساسا إلى ضعف الاحزاب السياسية الجادة، وترهل القيادات الحزبية وانعدام المواقف اليمينية الصادقة التي أرخ لها رجال صدقوا الله ما عاهدوا عليه أمثال علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني و امحمد بوستة و المعطي بوعبيد، وأحمد رضى اكديرة، ليتحول النضال من المسؤولية والنقد البناء، الى انتهازية مقيتة ولعبة يوتوب وبوز وسب وشتم وتبخيس لكل ما له علاقة بالدولة والمؤسسات وبحث عن المشاهدات بدل البحث عن الحلول للقضايا الوطنية العديدة، وتحول المشهد السياسي والحقوقي إلى ساحة للسب والشتم والتخوين المتبادل بين أصحاب الرأي المدافع عن توجهات معينة داخل الدولة مهما كانت قاسية أو مجانبة للصواب، وبين أصحاب الرأي المعارض، ليبقى الخاسر الأكبر هو الوطن والمواطن وجهود التنمية التي يجب ان تبقى الشغل الشاغل لكافة الفاعلين الأحرار.
ولنأخذ قضية المعطي منجب كمثال على ما أصبح عليه حال النقاش العمومي، ففي الوقت الذي اختار فيه القضاء تنفيذ نص الاعتقال الاحتياطي في حقه كمتهم بقضايا جنائية محضة، لم تتوان مجموعة من الأبواق عن اتهام القضاء بالسخرة وعدم الإستقلالية، لكن نفس مجموعة البوليس النضالي لم تجد الكلمات المناسبة لشكر القضاء على شجاعته في منح السراح المؤقت ومتابعة المتهم في حالة سراح، وهو ما أصبح يؤكد أن توجه المجموعة ينحو دائما نحو مزيد من التطرف والغلو، وسيعلم بعد حين كل من انغوى برنين الشعارات النضالية، أنه كان مجرد حطب لنار خارجية تسعى ليل نهار لتحويل المغرب إلى خراب ودمار كما هو الشأن في الجزائر وليبيا ومصر وتونس وسوريا واليمن.
لكن بالمقابل فإن الرأي المنتقد والمعارض لجماعة البوليس النضالي، يجب أن يتحلى أولا بالوطنية الصادقة وأن يتميز بالاستقلالية والأخلاق والمروءة في خلافه مع هذا التيار فمن غير المقبول أخلاقيا النهش في جسد هؤلاء مهما بلغ الاختلاف ومن غير المقبول إهدار دمهم واستباحة أعراضهم، وكذلك من الواجب دوما استحضار الموضوعية في مواجهة بعض قوى النكوص التي تتماهى مع أشكال المعارضة العشوائية وغير المسؤولة، وأن يكون الهاجس والمنطلق هو احترام المؤسسات وتقويتها وسيادة القانون واستقلالية القضاء ودولة حقوق الإنسان، إذ لم يعد مقبولا من مغرب 2021 الذي خطى خطوات جبارة نحو مصالحة مع ذاته وماضيه بفضل جرأة وشجاعة الملك محمد السادس حفظه الله، أن يعود ولو قيد أنملة إلى الوراء أو ينكئ الجراح التي ما فتئت ان تندمل.
#إسحاق_شارية
#مواقف_راسخة